فصل: فائدة: مواضع إفادة الحصر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البرهان في علوم القرآن (نسخة منقحة)



.فائدة: مواضع إفادة الحصر:

لَا تُخَصُّ إِفَادَةُ الْحَصْرِ بِتَقْدِيمِ الضَّمِيرِ الْمُبْتَدَأِ بَلْ هُوَ كَذَلِكَ إِذَا تَقَدَّمَ الْفَاعِلُ أَوِ الْمَفْعُولُ أَوِ الْجَارُّ أَوِ الْمَجْرُورُ الْمُتَعَلِّقَاتُ بِالْفِعْلِ وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} فَإِنَّ الْإِيمَانَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مُنْحَصِرًا فِي الإيمان بالله بل لابد مَعَهُ مِنْ رُسُلِهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَغَيْرِهِ مِمَّا يَتَوَقَّفُ صِحَّةُ الْإِيمَانِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ التَّوَكُّلِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَحْدَهُ لِتَفَرُّدِهِ بِالْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ الْقَدِيمَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ قُدِّمَ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ فِيهِ لِيُؤْذِنَ بِاخْتِصَاصِ التَّوَكُّلِ مِنَ الْعَبْدِ عَلَى اللَّهِ دُونَ غَيْرِهِ لِأَنَّ غَيْرَهُ لَا يَمْلِكُ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا فَيُتَوَكَّلُ عَلَيْهِ ولذلك قدم الظرف في قوله: {لا فيها غول} لِيُفِيدَ النَّفْيَ عَنْهَا فَقَطْ وَاخْتِصَاصَهَا بِذَلِكَ بِخِلَافِ تأخيره في: {لا ريب فيه} لِأَنَّ نَفْيَ الرَّيْبِ لَا يَخْتَصُّ بِالْقُرْآنِ بَلْ سَائِرُ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ كَذَلِكَ.
الْعَاشِرُ: مِنْهَا (هَاءُ) التَّنْبِيهِ فِي النِّدَاءِ نَحْوُ: {يَا أَيُّهَا} قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَأَمَّا الْأَلِفُ وَالْهَاءُ اللَّتَانِ لَحِقَتَا (أَيًّا) تَوْكِيدًا فَكَأَنَّكَ كَرَّرْتَ يَا مرتين إذا قلت يأيها وَصَارَ الِاسْمُ تَنْبِيهًا.
هَذَا كَلَامُهُ وَهُوَ حَسَنٌ جِدًّا وَقَدْ وَقَعَ عَلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ: وَكَلِمَةُ التَّنْبِيهِ الْمُقْحَمَةُ بَيْنَ الصِّفَةِ وَمَوْصُوفِهَا لِفَائِدَةِ تَبْيِينِ مُعَاضَدَةِ حَرْفِ النِّدَاءِ وَمُكَاتَفَتِهِ بِتَأْكِيدِ مَعْنَاهُ وَوُقُوعِهَا عِوَضًا مِمَّا يَسْتَحِقُّهُ أَيْ مِنَ الْإِضَافَةِ.
الْحَادِي عَشَرَ: (يَا) الْمَوْضُوعَةُ لِلْبَعِيدِ إِذَا نُودِيَ بِهَا الْقَرِيبُ الْفَطِنُ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّهُ لِلتَّأْكِيدِ الْمُؤَذِّنُ بِأَنَّ الْخِطَابَ الَّذِي يَتْلُوهُ مُعْتَنًى بِهِ جِدًّا.
الثَّانِي عَشَرَ: الْوَاوُ زَعَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّهَا تُدْخِلُ عَلَى الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ صِفَةً لِتَأْكِيدِ ثُبُوتِ الصِّفَةِ بِالْمَوْصُوفِ كَمَا تَدْخُلُ عَلَى الْجُمْلَةِ الْحَالِيَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ معلوم} وقوله تعالى: {ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم} وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْجُمْلَةَ الْمَوْصُوفَ بِهَا لَا تَقْتَرِنُ بِالْوَاوِ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُفَرَّغَ لَا يَقَعُ فِي الصِّفَاتِ بَلِ الْجُمْلَةُ حَالٌ مِنْ (قَرْيَةٍ) لِكَوْنِهَا عَامَّةً بِتَقْدِيمِ إِلَّا عَلَيْهَا.
الثَّالِثَ عَشَرَ: (إِمَّا) الْمَكْسُورَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى} أَصْلُهَا (إِنَّ) الشَّرْطِيَّةُ زِيدَتْ (مَا) تَأْكِيدًا وَكَلَامُ الزَّجَّاجِ يَقْتَضِي أَنَّ سَبَبَ اللَّحَاقِ نُونُ التَّوْكِيدِ.
وَقَالَ الْفَارِسِيُّ: الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ لِمُشَابَهَةِ فِعْلِ الشَّرْطِ بِدُخُولِ مَا لِلتَّأْكِيدِ بِالْفِعْلِ الْمُقْسَمِ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ أَنَّهَا كَالْعَدَمِ فِي الْقَسَمِ لِمَا فِيهَا مِنَ التَّأْكِيدِ وَجَمِيعُ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنَ الشَّرْطِ بَعْدَ إِمَّا تَوْكِيدُهُ بِالنُّونِ قَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: وَهُوَ الْقِيَاسُ لِأَنَّ زِيَادَةَ مَا مُؤْذِنَةٌ بِإِرَادَةِ شِدَّةِ التَّوْكِيدِ وَاخْتَلَفَ النُّحَاةُ أَتَلْزَمُ النُّونُ الْمُؤَكَّدَةُ فِعْلَ الشَّرْطِ عِنْدَ وَصْلِ إِمَّا أَمْ لَا فَقَالَ الْمُبَرِّدُ وَالزَّجَّاجُ: يَلْزَمُ وَلَا تُحْذَفُ إِلَّا ضَرُورَةً وَقَالَ سِيبَوَيْهِ وَغَيْرُهُ: لَا تَلْزَمُ فَيَجُوزُ إِثْبَاتُهَا وَحَذْفُهَا وَالْإِثْبَاتُ أَحْسَنُ وَيَجُوزُ حَذْفُ (ما) وإثبات النون قال سيبويه: إن تثبت لم تقحم النون كما أنك إذا أثبت لم تجئ بما انْتَهَى وَجَاءَ السَّمَاعُ بِعَدَمِ النُّونِ بَعْدَ (إِمَّا) كَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
فَإِمَّا تَرَيْنِي وَلِي لِمَّةً ** فَإِنَّ الْحَوَادِثَ أَوْدَى بِهَا

الرَّابِعَ عَشَرَ: (أَمَّا) الْمَفْتُوحَةَ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أنه الحق من ربهم} إِنَّهَا تُفِيدُ التَّأْكِيدَ.
الْخَامِسَ عَشَرَ: (أَلَا) الِاسْتِفْتَاحِيَّةُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ألا إنهم هم المفسدون} وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُمْ: إِنَّهَا لِلتَّحْقِيقِ أَيْ: تَحْقِيقِ الْجُمْلَةِ بَعْدَهَا وَهَذَا مَعْنَى التَّأْكِيدِ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلِكَوْنِهَا بِهَذَا الْمَنْصِبِ مِنَ التَّحْقِيقِ لَا تَكَادُ تَقَعُ الْجُمْلَةُ بَعْدَهَا إِلَّا مُصَدَّرَةً بِنَحْوِ مَا يُتَلَقَّى بِهِ الْقَسَمُ نَحْوُ: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}.
السَّادِسَ عَشَرَ: (مَا) النَّافِيَةُ نَحْوُ: مَا زَيْدٌ قَائِمًا أَوْ قَائِمٌ عَلَى لُغَةِ تَمِيمٍ جَعَلَ سِيبَوَيْهِ فِيهَا مَعْنَى التَّوْكِيدِ لِأَنَّهُ جَعَلَهَا فِي النفي جوابا لقد فِي الْإِثْبَاتِ كَمَا أَنَّ قَدْ فِيهَا مَعْنَى التَّوْكِيدِ فَكَذَلِكَ مَا جُعِلَ جَوَابًا لَهَا ذَكَرَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي شَرْحِ الْمُفَصَّلِ.
السَّابِعَ عَشَرَ: الْبَاءُ فِي الْخَبَرِ نَحْوُ مَا زَيْدٌ بِمُنْطَلَقٍ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي كَشَّافِهِ: الْقَدِيمِ هِيَ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: قَوْلُكَ: مَا زَيْدٌ بِمُنْطَلِقٍ جَوَابُ إِنَّ زَيْدًا لِمُنْطَلَقٍ مَا بِإِزَاءِ إِنَّ وَالْبَاءُ بِإِزَاءِ اللَّامِ وَالْمَعْنَى رَاجِعٌ إِلَى أَنَّهَا لِلتَّأْكِيدِ لِأَنَّ اللَّامَ لِتَأْكِيدِ الْإِيجَابِ فَإِذَا كَانَتْ بِإِزَائِهَا كَانَتْ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ هَذَا كله في مؤكدات الجملة الاسمية.

.مؤكدات الجملة الفعلية:

وَأَمَّا مُؤَكِّدَاتُ الْفِعْلِيَّةِ فَأَنْوَاعٌ:
أَحَدُهَا: (قَدْ) فَإِنَّهَا حَرْفُ تَحْقِيقٍ وَهُوَ مَعْنَى التَّأْكِيدِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فقد هدي إلى صراط مستقيم} مَعْنَاهُ: حَصَلَ لَهُ الْهُدَى لَا مَحَالَةَ.
وَحَكَى الْجَوْهَرِيُّ عَنِ الْخَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُؤْتَى بِهَا فِي شَيْءٍ إِلَّا إِذَا كَانَ السَّامِعُ مُتَشَوِّقًا إِلَى سَمَاعِهِ كَقَوْلِكَ لِمَنْ يَتَشَوَّقُ سَمَاعَ قُدُومِ زَيْدٍ قَدْ قَدِمَ زَيْدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَمْ يَحْسُنِ الْمَجِيءُ بِهَا بَلْ تَقُولُ: قَامَ زَيْدٌ.
وَقَالَ بَعْضُ النُّحَاةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مثل} وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا منكم في السبت} قَدْ فِي الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ الْمُجَابِ بِهَا الْقَسَمُ مِثْلُ إِنَّ وَاللَّامِ فِي الِاسْمِيَّةِ الْمُجَابِ بِهَا فِي إِفَادَةِ التَّأْكِيدِ.
وَتَدْخُلُ عَلَى الْمَاضِي نَحْوُ: {قد أفلح من زكاها}.
والمضارع نحو: {قد نعلم إنه ليحزنك} {قد يعلم ما أنتم عليه} قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: دَخَلَتْ قَدْ لِتَوْكِيدِ الْعِلْمِ.
وَيَرْجِعُ ذَلِكَ لِتَوْكِيدِ الْوَعِيدِ وَبِهَذَا يُجَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّمَا تُفِيدُ التَّعْلِيلَ مَعَ الْمُضَارِعِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبَانٍ: تُفِيدُ مَعَ الْمُسْتَقْبَلِ التَّعْلِيلَ فِي وُقُوعِهِ أَوْ مُتَعَلِّقِهِ فَالْأُولَى كَقَوْلِكَ: زَيْدٌ قَدْ يَفْعَلُ كَذَا وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْهُ بِالْكَثِيرِ وَالثَّانِي كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} الْمَعْنَى-وَاللَّهُ أَعْلَمُ-: أَقَلُّ مَعْلُومَاتِهِ مَا أَنْتُمْ عليه.
ثانيا: السِّينُ الَّتِي لِلتَّنْفِيسِ قَالَ سِيبَوَيْهِ فِي قَوْلِهِ تعالى: {فسيكفيكهم الله} مَعْنَى السِّينِ: أَنَّ ذَلِكَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ وَإِنْ تَأَخَّرَ إِلَى حِينٍ.
وَجَرَى عَلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} السِّينُ تُفِيدُ وُجُودَ الرَّحْمَةِ لَا مَحَالَةَ فَهِيَ تُؤَكِّدُ الْوَعْدَ كَمَا تُؤَكِّدُ الْوَعِيدَ فِي قَوْلِكَ: (سَأَنْتَقِمُ مِنْكَ يَوْمًا) يَعْنِي: أَنَّكَ لَا تَفُوتَنِي وإن تبطأت.
ونحوه: {سيجعل لهم الرحمن ودا} {ولسوف يعطيك ربك فترضى} {سوف يؤتيهم أجورهم} لَكِنْ قَالَ: فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} مَعْنَى الْجَمْعِ بَيْنَ حَرْفَيِ التَّأْكِيدِ وَالتَّأْخِيرِ أَنَّ الْعَطَاءَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ وَإِنْ تَأَخَّرَ.
وَقَدِ اعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ وُجُودَ الرَّحْمَةِ مُسْتَفَادٌ مِنَ الْفِعْلِ (لَا) مِنَ السِّينِ وَبِأَنَّ الْوُجُوبَ الْمُشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ لَا مَحَالَةَ لَا إِشْعَارَ لِلسِّينِ بِهِ.
وَأُجِيبَ بِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ السِّينَ مَوْضُوعَةٌ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْوُقُوعِ مَعَ التَّأَخُّرِ فَإِذَا كَانَ الْمَقَامُ لَيْسَ مَقَامَ تَأْخِيرٍ لِكَوْنِهِ بِشَارَةً تَمَحَّضَتْ لِإِفَادَةِ الْوُقُوعِ وَتَحْقِيقِ الْوُقُوعِ يَصِلُ إِلَى دَرَجَةِ الْوُجُوبِ وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ ذَلِكَ يُسْتَفَادُ مِنَ الْمَقَامِ لَا مِنَ السِّينِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ السِّينَ يَحْصُلُ بِهَا تَرْتِيبُ الْفَائِدَةِ لِأَنَّهَا تُفِيدُ أَمْرَيْنِ الْوَعِيدُ وَالْإِخْبَارُ بِطُرُقِهِ وَأَنَّهُ مُتَرَاخٍ فَهُوَ كَالْإِخْبَارِ بِالشَّيْءِ مَرَّتَيْنِ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِخْبَارَ بِالشَّيْءِ وَتَعْيِينَ طُرُقِهِ مُؤْذِنٌ بِتَحَقُّقِهِ عِنْدَ المخبر به.
ثالثها: النُّونُ الشَّدِيدَةُ وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ ذِكْرِ الْفِعْلِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَبِالْخَفِيفَةِ فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ ذَكْرِهِ مَرَّتَيْنِ.
قِيلَ: وَهَذَانَ النُّونَانِ لِتَأْكِيدِ الْفِعْلِ فِي مُقَابَلَةِ تَأْكِيدِ الِاسْمِ بِأَنَّ وَاللَّامِ وَلَمْ يَقَعْ فِي الْقُرْآنِ التَّأْكِيدُ بِالْخَفِيفَةِ إِلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ: {وليكونا من الصاغرين} وقوله تعالى: {لنسفعا بالناصية} وَلَمَّا لَمْ يُتَجَاوَزِ الثَّلَاثَةُ فِي تَأْكِيدِ الْأَسْمَاءِ فَكَذَلِكَ لَمْ يَتَجَاوَزْهَا فِي تَأْكِيدِ الْأَفْعَالِ قَالَ تعالى: {فمهل الكافرين أمهلهم رويدا} لَمْ يَزِدْ عَلَى ثَلَاثَةٍ مَهَّلَ وَأَمْهِلْ وَرُوَيْدًا كُلُّهَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَهُنَّ فِعْلَانِ وَاسْمُ فِعْلٍ.
رَابِعًا: (لَنْ) لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ كَإِنَّ فِي تَأْكِيدِ الْإِثْبَاتِ فَتَقُولُ: لَا أَبْرَحُ فَإِذَا أَرَدْتَ تَأْكِيدَ النَّفْيِ قُلْتَ: لَنْ أَبْرَحَ قَالَ سِيبَوَيْهِ: هِيَ جَوَابٌ لِمَنْ قَالَ: سَيَفْعَلُ يَعْنِي وَالسِّينُ لِلتَّأْكِيدِ فَجَوَابُهَا كَذَلِكَ وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَنْ تَدُلَّ عَلَى اسْتِغْرَاقِ النَّفْيِ فِي الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ بِخِلَافِ (لَا) وَكَذَا قَالَ فِي الْمُفَصَّلِ: (لَنْ) لِتَأْكِيدِ مَا تُعْطِيهِ (لَا) مِنْ نَفْيِ الْمُسْتَقْبَلِ وَبُنِيَ عَلَى ذَلِكَ مَذْهَبُ الِاعْتِزَالِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَنْ تراني} قَالَ: هُوَ دَلِيلٌ عَنْ نَفْيِ الرُّؤْيَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ حَكَاهُ إِمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي الشَّامِلِ عَنِ الْمُعْتَزِلَةِ وَرَدَّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى لِلْيَهُودِ: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ولن يتمنوه أبدا} ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ عَامَّةِ الْكَفَرَةِ أَنَّهُمْ يَتَمَنَّوْنَ الآخرة فيقولون: {يا ليتها كانت القاضية} يَعْنِي: الْمَوْتَ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا تَنْفِي الْأَبَدَ وَلَكِنْ إِلَى وَقْتٍ بِخِلَافِ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ وَأَنَّ النَّفْيَ بِلَا أَطْوَلُ مِنَ النَّفْيِ بِلَنْ لِأَنَّ آخِرَهَا أَلِفٌ وَهُوَ حَرْفٌ يَطُولُ فِيهِ النَّفَسُ فَنَاسَبَ طُولُ الْمُدَّةِ بِخِلَافِ (لَنْ) ولذلك قال تعالى: {لن تراني} وَهُوَ مُخَصَّصٌ بِدَارِ الدُّنْيَا.
وَقَالَ: {لَا تُدْرِكُهُ الأبصار} وَهُوَ مُسْتَغْرِقٌ لِجَمِيعِ أَزْمِنَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَعَلَّلَ بِأَنَّ الْأَلْفَاظَ تُشَاكِلُ الْمَعَانِيَ وَلِذَلِكَ اخْتُصَّتْ لَا بِزِيَادَةِ مُدَّةٍ.
وَهَذَا أَلْطَفُ مِنْ رَأْيِ الْمُعْتَزِلَةِ وَلِهَذَا أَشَارَ ابْنُ الزَّمْلِكَانِيُّ فِي التِّبْيَانِ بِقَوْلِهِ: (لا) تنفي ما بعد و: (لن) تنفي ما قرب وبحسب الْمَذْهَبَيْنِ أَوَّلُوا الْآيَتَيْنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أبدا} {ولا يتمنونه أبدا}.
وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي أَنْ: {لَا يَتَمَنَّوْنَهُ} جَاءَ بَعْدَ الشَّرْطِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الموت} وحرف الشرط يعم كل الأزمنة فقوبل بلا لِيُعَمَّمَ مَا هُوَ جَوَابٌ لَهُ أَيْ زَعَمُوا ذَلِكَ فِي وَقْتِ مَا قِيلَ لَهُمْ تَمَنَّوُا الموت وأما {ولن يتمنوه} فَجَاءَ بَعْدَ قَوْلِهِ: {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدار الآخرة عند الله خالصة} أَيْ: إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ الْآنَ اسْتِعْجَالًا لِلسُّكُونِ فِي دَارِ الْكَرَامَةِ الَّتِي أَعَدَّهَا اللَّهُ لِأَوْلِيَائِهِ وَأَحِبَّائِهِ وَعَلَى وَفْقِ هذا القول جاء قوله: {لن تراني}.
قلت: والحق أن (لا) و: (لن) لِمُجَرَّدِ النَّفْيِ عَنِ الْأَفْعَالِ الْمُسْتَقْبَلَةِ وَالتَّأْبِيدُ وَعَدَمُهُ يُؤْخَذَانِ مِنْ دَلِيلٍ خَارِجٍ وَمَنِ احْتَجَّ عَلَى التَّأْبِيدِ بِقَوْلِهِ: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا} وبقوله: {لن يخلقوا ذبابا} عورض بقوله: {فلن أكلم اليوم إنسيا} وَلَوْ كَانَتْ لِلتَّأْبِيدِ لَمْ يُقَيَّدْ مَنْفِيُّهَا بِالْيَوْمِ وبقوله: {ولن يتمنوه أبدا} ولو كانت لتأبيد لَكَانَ ذِكْرُ الْأَبَدِ تَكْرِيرًا وَالْأَصْلُ عَدَمُهُ وَبُقُولِهِ: {لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا موسى} لَا يُقَالُ: هِيَ مُقَيَّدَةٌ فَلَمْ تُفِدِ التَّأْبِيدَ وَالْكَلَامُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ لِأَنَّ الْخَصْمَ يَدَّعِي أَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ لِذَلِكَ فَلَمْ تُسْتَعْمَلْ فِي غَيْرِهِ وَقَدِ اسْتُعْمِلَتْ (لَا) لِلِاسْتِغْرَاقِ الْأَبَدِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لا يقضى عليهم فيموتوا} وقوله: {لا تأخذه سنة ولا نوم} {ولا يؤوده حفظهما} وَقَوْلِهِ: {وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سم الخياط} وَغَيْرُهُ مِمَّا هُوَ لِلتَّأْبِيدِ وَقَدِ اسْتُعْمِلَتْ فِيهِ (لَا) دُونَ (لَنْ) فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لِمُجَرَّدِ النَّفْيِ وَالتَّأْبِيدُ يُسْتَفَادُ مِنْ دَلِيلٍ آخَرَ.